Luces de Bohemia de Valle Inclán, traducido al árabe por Omar Bouhachi (introducción)

Hoy, solo la introducción, mañana el texto de Ramón del Valle Inclán

أضواء البوهيمية

إسبيربينتو

Luces de Bohemia esperpento

مسرحية

ترجمة: عمر بوحاشي Traducido por Omar Bouhachi

الدكتور عبد الكريم البسيري

  نتيجة لتطور وعي طبقة من المثقفين الإسبان في ظل الأزمات السياسية والاجتماعية المتزامنة مع المرحلة التي عاش فيها رامون ديل بايي إنكلان ( 1866- 1936) شهدت إسبانيا حركات أدبية ذات توجهات حاملة لمواقف نقدية تروم نقد الواقع والبحث عن صيغ جديدة للتعبير من أبرزها حركة الحداثيين وجيل 98. والظاهر أن الحركتين السالف ذكرهما وإن كانتا تهدفان لمناهضة ثقافة وآداب القرن التاسع عشر، ورفض الأشكال التقليدية، وسمات الواقع البرجوازي، إلا أنهما انفردا بخصائص اتخذ فيها الحداثيون الموقف المضاد لعالم الفن البرجوازي عن طريق البحث عن الأشكال الجمالية الجديدة، في حين انتهج أدباء جيل 98 طرقا سياسية وإيديولوجية متذمرة كانوا من خلالها أكثر انشغالا بالواقع السياسي الإسباني. والواقع أن الفصل الظاهري بين الحركتين ليس معناه أنهما كانتا متباعدتين لأن الحداثة وإن كانت تعتد في أهم قيمها بالأشكال الجمالية فهي في الوقت ذاته كانت تحمل قيما ثورية، كما أن جيل 98 وإن كان يميل إلى نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية فهو لم يتخل أيضا عن البحث عن الأشكال الجمالية.

  لم يكن بايي إنكلان وهو الذي تشبع بروح الحداثة التي كتب بها أعماله الأولى منذ نهاية القرن التاسع عشر بمبتعد عن تطلعات جيل 98، فموقفه الإيديولوجي والسياسي من الأحداث والأزمات السياسية التي عاشتها إسبانيا في عصره لعله قد يدفع إلى القول إنه كان أقرب إلى التوجه النقدي وانشغالات جيل 98 وهو ما جعل أحد النقاد يصفه بأنه كان حاملا في » أضواء البوهيمية » لصفات الحداثة أدبيا وصفات جيل 98 إيديولوجيا، غير أن الشكل الذي تبناه في الكتابة لا يقود إلى الزعم بأنه أديب يمثل جيل 98 في كليته، وكل ما في الأمر أن إحساسه بالوضع المتأزم لإسبانيا، وانزعاجه من أحداثها، ورفضه للتقليد، جعله في لحظة مشتركة يلتقي مع هذه الجماعة لكن بتناول فريد للأحداث وبنسق جمالي خاص به. كما أن مفهومه المتطور للكتابة كان أقوى حدة وأوسع أفقا مما انتهجته الحداثة في عصره.

  لقد كان لبايي إنكلان في «أضواء البوهيمية» فضل إدخال مصطلح الجنس الأدبي الجديد   «الإسبيربينتو» في المعاجم اللغوية، وهو الجنس الذي كتب به، وارتبط به، وشكل به قطيعة مع كتابات أخرى، وعدت مرحلة الكتابة به في إنتاجاته من أقوى لحظات مسيرته الإبداعية في الأدب الإسباني خلال الثلث الأول من القرن العشرين وأكثرها قدرة على رؤية الواقع والعالم من حيث التقنية المعتمدة، وتطويع اللغة للمواقف الملائمة، واستخدام وسائل طريفة لنقد اواقع وتشويهه. إنه الجنس المعتمد على نقل مظاهر اليأس والعنف والفساد والدناءة بوسائل التشويه، والمسخ، والإذلال، والاستهزاء، والتركيز على المتناقضات، وتحقير الواقع، والنظر إلى الكائنات والأشياء من زاوية التقاطها من أعلى حيث تتحول الكائنات إلى دمى متحركة تحط من قيمة الصورة التي يظهرها الواقع لغرض الكشف عن وجهها الحقيقي الذي ليس هو سوى وجه إسبانيا المشوه بالتحديد. والكاتب نفسه يذكر في إحدى مقابلاته سنة 1928 أن هناك ثلاثة أشكال لرؤية العالم والنظر إلى الشخصيات وتقديمها، فهناك من نظر إليها جاثما (كما هو الأمر في الملاحم والتراجيديا الكلاسيكية، حيث يبدو الأبطال أسمى من المؤلف وأكثر أهمية منه) وهناك من نظر إليها واقفا (حيث يقدم الأبطال وكأنهم إخوان لنا أوهم في مستوى السارد كالواقعيين) وهناك من ينظر إليها من فوق (حيث تبدو الشخصيات دمى وكراكيز). وهذه هي خصيصة الإسبيربينتو ونهجه في رؤية الواقع، والشكل الذي رأى إنكلان أن مأساة إسبانيا لا تدرك إلا به واقتنع بأن «المعنى المأساوي للحياة الإسبانية لا يمكن أن يعطى إلا بجمالية مشوهة» (المشهد الحادي عشر).

  وبتقنية التشويه والتجديد الشكلي والجمالي شكل مسرح الإسبيربينتو لدى بايي إنكلان قطيعة فنية مع أشكال مسرحية أخرى هيمنت عليها نوازع ترضي إقبال الجمهور البرجوازي، واختيارا تحدى به مختلف الأصناف التي كان يقدمها المسرح في عصره، ولهذا اعتقد الكثيرون ولمدة طويلة أن «إسبيربينتو» بايي إنكلان ليس «مسرحا حقيقيا» وإنما هو «حوارات مكانية» كما اعتقدوا أيضا أن عمله الدرامي هو «مسرح للقراءة» واستندوا في ذلك إلى أن تعدد الفضاءات الدرامية في «أضواء البوهيمية» يجعل العمل مستعصيا على العرض المسرحي خصوصا وأن التقنيات الدرامية في سنة 1924 لم تكن متوافرة بالشكل المطلوب، كما أن هذا العمل قد نشر أول الأمر في مجلة «إسبانيا» سنة 1920 ثم في كتاب مستقل بعد ذلك في سنة 1924 بعد إضافة ثلاثة مشاهد هي المشهد السادس والمشهد العاشر والمشهد الحادي عشر، الأمر الذي يقدم انطباعا بأن الكاتب نفسه لم يخطر بباله أن يقدمه للعرض. لكن على الرغم مما قيل فلا ينبغي التفكير في أن «أضواء البوهيمية» لم تكن عملا مسرحيا حقيقيا. فهذه الآراء قد كذبتها التصورات الجديدة للعروض المسرحية والتقنيات الجديدة للتمثيل والتي سمحت بعرض إنتاجه على المسرح، ولعل ما حدث هو أن بايي إنكلان قد ذهب أبعد مما كانت عليه مواضعات العرض في عصره، وأن تصوره للمسرح ربما كان أكثر حداثة وتجاوزا للاستعمالات السائدة في عصره وهو ما جعل الناقد «فرانثيسكو رويث رامون» يرى أن إنكلان قد سبق ما أصبح يسمى في منتصف القرن العشرين بـ «المسرح الحر».

  في عنوان «أضواء البوهيمية» يجمع بايي إنكلان بين عنصرين دالين هما البوهيمية والضوء. فأما البوهيمية فهي أسلوب الحياة المتحررة، والمتنحية عن الأعراف وسلوكها، وغير الممتثلة للمواصفات الاجتماعية وتقاليدها. وأما الضوء فهو بجانب الظلام وضعف الإنارة المستأثرين بالأماكن والفضاءات يشكل رمزيته من صراع الشاعر البوهيمي الأعمى الذي يرى في ظلام البؤس ما لا يراه الآخرون، ومن استحضار زمان بوهيمية بطولية ضائعة أشرفت على الزوال، واستحضار لباريس في نهاية القرن التاسع عشر أثناء إقامة (ماكس) بها في أجواء الفكر الحر وغير المقيد، وحيث أصبحت إسبانيا في العشرينيات من القرن الماضي تبدو وكأنها صحراء الثقافة القاحلة والتي تدعو إلى مثالية الشباب الضائع. ماكس وهو غارق في البؤس كان يمثل أضواء البوهيمية الذهبية التي تصدرت المشهد التاسع في مقهى كولون حيث جلس مع الشاعر روبين داريو ليتذكر حياته في باريس.

  تشتمل «أضواء البوهيمية» على خمسة عشر مشهدا تدور أحداثها خلال رحلة ليلية في أماكن مدريدية لشاعر أعمى هو «ماكس إسترييا» مع قائده ورفيقه «دون لاتينو دي هيسباليس».

  يخرج «ماكس إسترييا» من منزله مع «دون لاتينو» ليحتج على «ثاراتوسترا» بائع الكتب على الثمن الذي قدمه مقابل الكتب التي باعها له «دون لاتينو» ولفسخ العقد فلم يحققا ما كانا يريدان وانتهى بهما الأمر إلى التوجه للسكر في إحدى الحانات بعد أن باع ماكس معطفه. بعد ساعات قبض الحرس على ماكس بعد أن وجدوه مخمورا ومثيرا للشغب مع جماعة من الشباب الحداثيين الذين كانوا ينشدون أغاني مناهضة لـ «ماورا» فقادوه إلى المعتقل ولم يتمكن من الخروج منه إلا بتدخل رئيس جريدة «الشعب». بعد إطلاق سراحه طلب مقابلة وزير الحكومة أحد رفقائه القدماء في الدراسة ليرد له الاعتبار وليطلب «إرضاء وعقابا». انتهت المقابلة بأن خصص له الوزير راتبا شهريا وسلمه نقودا قبلها ماكس منه. من هناك ذهب إلى مقهى «كولون» حيث دعا «روبين داريو» و «دون لاتينو» للعشاء. وفي طريقه إلى البيت شعر بالموت، وفي الصباح الموالي وجدته بعض الجارات ميتا قرب الباب.

  وكما هو ظاهر فأحداث النص تستغل الرحلة الليلية لماكس ودون لاتينو لترسم أجواء مدريد العبثية والجائعة ولتضفي طابعا مأساويا على آخر ليلة من حياة ماكس ولتنقل صورة عن «جحيم» إسبانيا في عصر الكاتب والتي تذكر في أجوائها بجحيم دانتي في  «الكوميديا الإلهية»  ورحلة الكاتب إليه مصاحبا بدون لاتينو كما كان دانتي مصاحبا بالشاعر فرجيل.

  أما عن بنية النص المسرحي فعلى الرغم من أن المشاهد تشكل وحدات درامية مستقلة وتحدث في فضاءات متنوعة إلا أن هناك عناصر موضوعية ثابتة وبواعث درامية كانت تتكرر لتضفي على العمل طابع التسلسل والتماسك والوحدة. وحسب نظامها يمكن أن تقسم إلى قسمين:

  1. القسم الأول (من المشهد الأول إلى المشهد الثاني عشر) ويضم

ا – المقدمة (بواعث الرحلة وتقديم ماكس داخل الأسرة والإعلان عن رغبته في الموت).

ب – رحلة ماكس ودون لاتينو عبر جحيم الليل المدريدي إلى موت ماكس بجانب باب بيته.

  • القسم الثاني: يضم المشاهد الثلاثة الأخيرة التي جرت أحداثها بعد موت ماكس والمتعلقة بالسهر على جثة الميت والمقبرة والخاتمة المتصلة بالقضايا والبواعث الدرامية التي ظلت عالقة كانتحار السيدة «كوليت» زوجة ماكس و «كلاودينيتا» ابنته، ومصير ورقة اليانصيب الفائزة، وحياة لاتينو بعد ماكس.

إدانة الوضع السياسي والاجتماعي لإسبانيا

  تعكس «أضواء البوهيمية» صورة للوجه الاجتماعي والسياسي لإسبانيا في عصر الكاتب والتي تم وصفه لها بأنها «تشويه ساخر للحياة الأوربية» فبدءا من الأسبوع التراجيدي في برشلونة سنة 1909 مرورا بالثورة الروسية والاحتجاجات العمالية في إسبانيا 1917 (الإضراب الثوري العام) هيمنت على إسبانيا أجواء خيبة الأمل، واستشرى البؤس الناتج عن الاستغلال المتنامي للطبقة العاملة، وتكاثرت الاحتجاجات، واستفحل الفساد الإداري، وتكاثرت التظاهرات المشاغبة المصاحبة بالهجوم على المتاجر ونهبها، تلك التي تكتب عنها الصحف باستمرار في 1919 والتي وصف النص بعض وقائعها في المشهدين الثالث والحادي عشر: «تجري في الشارع أفواج من العمال وتسمع طرقة العديد من مغاليقها» و «الشعب الذي يسرق في المؤسسات العامة…»

  وقد جسد النص الصراعات الاجتماعية وقمع قوات حفظ النظام من خلال عبثية اعتقال ماكس على يد «سيرافين إل بونيتو» ثم في الرصاصة الطائشة التي قتلت الصبي البريئ، وعدم إحساس التجار (الممثلين للبرجوازية) بألم الأم، وفي «قانون الفرار» الذي قاد العامل الكطلاني إلى الموت. كما تجسدت إدانة الكاتب للوضع السياسي في النص من خلال إدانته لسوء حكم السياسيين المفسدين ونقده لهم بمختلف الأشكال كـ «رومانونيس » و «كاستيلار» و «ماورا» بل وحتى الملك «ألفونسوالثالث عشر»  من خلال الأوصاف التالية:

» الموت لماورا المنافق الكبير !» (المشهد الرابع)

» الموت لليهودي ولجميع أقاربه المبغوضين» (المشهد الرابع)

» الفكاهي الأول هو دون ألفونسو الثالث عشر» (المشهد السابع)

» لقد حطم السيد ألفونسو الرقم القياسي بتنصيبه السيد غارثيا برييطو رئيسا للحكومة » (المشهد السابع)

«لا تعد إلى مقارنتي بكاستيلار. كاستيلار كان بليدا»  (المشهد الثالث).

  والملاحظ أن بايي إنكلان لم يتجه بنقده فقط إلى السياسيين أو إلى فئات أو طبقات معينة بل امتد إلى الحياة الإسبانية عامة فلم يسلم من نقده الحداثيون (عالم الفن البوهيمي العبثي وغير النافع) ولم يسلم من نقده السياسيون كما سبق، كما لم يسلم من نقده البوليس بأعماله العنيفة، ولا الصحافيون الذين يتزلفون السلطة، ولا الشعراء الفاشلون، ولا البرجوازية، ولا العاهرات ولا السكارى، ولا كتاب معينون، ولا الأكاديمية الملكية، ولا المؤسسات الأدبية، ولا الكنيسة التي أصبحت إسبانيا بسببها «عشيرة من وسط أفريقيا» (المشهد الثاني) ولم يستثن من هؤلاء إلا»ماكس» في قليل من مواقفه الإنسانية، وعائلته، وأم الطفل المقتول بالرصاصة الطائشة.

  لقد كانت إدانته عامة لإسبانيا كلها الغارقة في الفساد السياسي والبؤس الخلقي والتي قال عنها:

«في إسبانيا لا تكافأ الاستحقاقات. تكافأ السرقة والوقاحة. في إسبانيا يكافأ كل ما هو قبيح»  (المشهد الرابع عشر). وإسبانيا التي أدانها هي إسبانيا التي أخذت باهتمامه وهي التي جعلته يرى في تصرفاتها فضاء لأزمنة غابرة، وفي سلوك مواطنيها أشخاصا بلا عزيمة، وفي آفاقها مجالا لانهيار غير قابل للعلاج. ومن هنا كانت إدانته عامة، ونقده شاملا للجميع، وسخريته ممتدة من الملك حتى إلى آخر رجل من العوام. ومن هنا أيضا كان في نقده حريصا على التغيير والإصلاح. هذا الحرص الذي يختلف جوهريا مع نقد رفقاء جيله من حيث مجابهته للمجتمع بكامله  جاعلا من النقد الجماعي  والمحنة العامة مسؤولية الجميع وكأنه يقول: كلنا مسؤول عن واقع تاريخنا.

  الشخصيات

  تضم «أضواء البوهيمية» أكثر من خمسين شخصية تنتمي إلى كل الفئات الاجتماعية والثقافية، وكلها تشترك في ملمحين عامين: أولهما أنها شخصيات بلا حظ  ولا همم ولا مستقبل، وثانيهما أن أغلبها قدم من لدن الكاتب بتقنية التشويه (الإسبيربينتو) ولم ينج منها لأسباب إنسانية سوى عائلة ماكس إسترييا، والعامل الكطلاني المعتقل، وأم الطفل المقتول. والملاحظ أن شخصيات المسرحية ليست خالصة الابتكار وإنما أخذها الكاتب من الحياة الواقعية وأخضعها لطريقته الكاريكاتورية جاعلا منها دمى متحاورة في سياق إرادته هو.

–  فماكس إسترييا هو الصورة الرمزية للشاعر البوهيمي الأعمى والمجنون » أليخاندرو ساوا » الذي استمد منه بايي إنكلان مأساة حياته، وسماته الجسدية، ومعطيات محددة أخرى وأسندها إلى ماكس. فأليخاندرو ساوا شاعر بوهيمي أعمى ومجنون توفي سنة 1909 كان متزوجا من إحدى الفرنسيات هي «جان بوريير» (مدام كوليط في النص). وله بنت واحدة هي «إيلينا» (كلاودينيتا في النص ). فشله في نشر كتبه وفصله من العمل الذي كان به محررا في جريدة «الليبيرال» بواسطة رسالة دفعا به إلى الجنون. تعرف في فرنسا أثناء إقامته بها على كتاب وشعراء منهم فيكتور هوغو. مات بئيسا وكان على أصدقائه أن يؤدوا ثمن الدفن، وأثناء ذلك حصلت أشياء غريبة منها أن مسمارا ثقب صدغه فشك البعض في أنه قد مات حقا.

– «السيد لاتينو» يمكن أن ينظر إليه كأليخاندرو ساوا في ازدواج شخصيته.

– «ثاراتوسترا» تحت هذا الاسم يختفي ناشر كتب الحداثيين في بداية القرن العشرين «غريغوريو بوييو».

– «السيد بيريغرينو غاي» هو الكاتب «ثيرو بايو»

– «الشعراء الحداثيون الشباب» جمعهم بايي إنكلان في تسمية أتباع الماضي الحداثي منهم «دوريو دي غاديكس» و «بيدرو لويس دي غالبيس» شخصيتان مهمتان في تاريخ الأدب الإسباني

– وزير الحكومة ويتعلق الأمر بالصحافي «خوليو بوريل» الذي أصبح وزيرا في سنة 1917.

– روبين داريو. شاعر من رواد الحداثة.

  أما الشخصيتان البارزتان في مشاهد «أضواء البوهيمية» فهما ماكس إسترييا والسيد لاتينو دي هيسباليس. فـ «ماكس إسترييا» أو «النجمة السيئة» كما كانوا يدعونه لسوء حظه هو الشخصية الرئيسة في النص المسرحي والذي تتجسد فيه ملامح نماذج أدبية وحقيقية كـ «دون كيشوت» مع  (سانشو بانثا ) و «هوميروس» (الشاعر الأعمى) و «دانتي وفرجيل» (النزول إلى الجحيم) و «أليخاندرو ساوا» (النموذج الحقيقي) الذي يشبهه ماكس في صفاته ووقائع حياته. وصفه الجسماني يقربه من صورة بطل كلاسيكي ومع ذلك فهو يبتعد في مصيره الخاص عن الأبطال القدماء. شخص يعاني في نفسه عدم قدرته على التكيف مع المجتمع لكنه واع بـ «تراجيديا المهزلة» التي صار إليها الواقع الإسباني والتي كان يحس أمامها بـ «الغيظ والعار». إنه كان يشعر بموهبته وبسموه الخلقي على مجتمع برجوازي يظهر أحيانا محكوما بالترفع القريب من العجرفة. لم يبتعد عن الإحساس بالظلم الاجتماعي وبألم الآخرين والتضامن مع عامة الشعب والمضطهدين لكنه على الرغم من ذلك كان مشمولا بالمتناقضات حتى ليمكن القول إن موقعه الإيديولوجي عبر مشاهد النص قد انتابه فتور في بعض المواقف التي تنبئ بالتناقض. فهو ينتقد الفساد السياسي لكنه يقبل إعانة الوزير المقتطعة من رصيد البوليس، ويشفق على ألم أم الطفل المقتول لكنه يتحول إلى قاس مع أسرته. يقبل مال الوزير وينفقه في الشراب على الرغم من أنه يعرف أن زوجته وابنته تمران بحالة جوع. ماكس إسترييا شخص كريم ومعقد. يبعد أن تكون له صورة نبيلة لكنه يصل في بعض اللحظات إلى سمو خلقي لا شك فيه. تمتزج فيه روح الدعابة بالشك وعزة النفس بالحقارة، ويمتزج فيه الجبن والدناءة والأنانية بلحظات جليلة. تعرض في حياته الدرامية لنصب واحتيال » ثاراتوسترا» عليه وخداع «لاتينو» وبيع كرامته للوزير. كما تعرض للسجن ولسرقة حافظة نقوده التي تحتوي على ورقة اليانصيب الفائزة من لدن «لاتينو».

  أما «السيد لاتينو دي هيسباليس» فقد نجد فيه حسب الناقد «ثامورا بيثينطي» بعض معطيات السيرة الذاتية لأليخاندرو ساوا في شكلها المتعلق بازدواج الشخصية. إنه الصورة المناقضة لماكس ووجهه المظلم وأكثر شخصية تعرضت للمسخ والتشويه في النص: دنيء ومتطفل وغير أمين ووقح ومحتال ومذعن للسلطة بمعنى أن أوصافه متطابقة كليا مع مجتمع وقته. إنه البوهيمي الذي يصاحب البوهيمي البطل ككلب والذي لا يتردد في تخييب الآمال والسرقة، لايعنيه إن خدع ماكس مرات عديدة ولم يعره معطفه حين كان هذا الأخير في لحظة الموت. وهو الذي سرق منه حافظة نقوده التي بقي فيها ما تسلمه من الوزير وورقة اليانصيب التي ستحظى بالفوز. لا يجاري ماكس في انشغالاته ومواقفه تجاه إسبانيا ويتنصل منها، وقد وصلت به وقاحته إلى ذروتها عند حضوره إلى بيت ماكس أثناء السهر على جثته وهو يترنح من السكر. كان يدعوه ماكس بـ»الهيسبالينسي الخنزير» (المشهد العاشر). وكان يقول عنه: «السيد لاتينو هيسباليس دميم ومضحك» (المشهد الثاني عشر). وكانت «كلاودينيتا تصفه بالصعلوك وتتهمه بموت أبيها» (المشهد الثالث عشر).

جمالية الإسبيربينتو

  من خلال الحوارات الدائرة في «أضواء البوهيمية» ينكشف المدلول العام والمنطلقات الأساسية التي أعطاها بايي إنكلان لجنسه الأدبي الجديد ولشكل رؤيته للعالم ولواقع إسبانيا والمعتمدة على مبدإ جمالي يقوم على التشويه والتحقير انطلاقا من أن مأساة إسبانيا الحقيقية لا تدرك إلا بجمالية مشوهة بانتظام. ومن ثم يقول على لسان ماكس:

  • «مأساتنا ليست مأساة»
  • «لنشوه العبارة في المرآة ذاتها التي تشوه لنا الوجوه وكل الحياة البئيسة لإسبانيا»
  • «صور الأبطال الكلاسيكيين المعكوسة على المرايا المقعرة تعطي الإسبيربينتو»
  • «أجمل الصور تبدو سخيفة في مرآة مقعرة»
  • «أنا يسليني رؤية صورتي في مرايا زقاق القط»
  • «جماليتي الحالية هي تحويل العادات الكلاسيكية برياضيات المرآة المقعرة»
  • «المعنى المأساوي للحياة الإسبانية لا يمكن أن يعطى إلا بجمالية مشوهة».

  ومن ثم فالإسبيربينتو مؤسس على التشويه والمسخ والتحقير، وعلى رؤية ملتقطة من فوق وبمسافة متباعدة تتحول فيها الكائنات إلى دمى وكراكيز، أو على رؤية جمالية منظور إليها عبر المرايا المقعرة التي تعكس الصورة الإشعاعية بأكثر من الصورة التي هي طبق الأصل، أو المرايا التي تنقل عمق الواقع لا ظاهره. وبهذه النظرة بدا بايي إنكلان منتحيا مسلكا مخالفا لما ساد في الأشكال والنماذج الأدبية في عصره وجاعلا من الفن الواقعي والبرجوازي «مرآة على حافة الطريق» تعكس ظاهر الواقع وليست هي نفسها المرآة المقعرة التي تشوه كل ما تعكسه وتملك قدرة تقديم حقيقة مأساة إسبانيا وعبثية واقع عيش أبنائها.

  من سمات الإسبيربينتو الأساسية الظاهرة في «أضواء البوهيمية» نذكر:

  • الحط من الواقع وتحقيره، حيث يتحول الأشخاص إلى حيوانات وتعطى الحياة للحيوانات للحط مما هو إنساني، ولنفس الغاية تُرد الكائنات البشرية والحيوانات نفسها إلى محض أدوات جامدة مثيرة للسخرية.
  •  إذلال ما هو إنساني حيث يتحول الأشخاص إلى دمى وكراكيز تظهر بها بمظهر بشري لكن بلا إحساس وكأنها مجرد أشياء.

ج- إظهار العالم بصفته عالما عبثا وغير معقول فيظهر فيه الأشخاص وكأنهم في مشهد من لعبة مسرحية.

د- التشويه المنهجي للواقع حيث يتم التركيز على السمات الأكثر عرضة للنقد لإظهار التناقضات بين سلوك مجتمع ودرجة القيم التي يعلنها.

هـ – الدعابة الهجائية أو السخرية اللاذعة.

و- أشخاص غريبو الأطوار وبعيدون عن المألوف.

ز- استخدام الأقنعة والوجوه المستعارة لاكتشاف الحقيقة الجوهرية للكائنات المختفية وراءها.

ن- استخدام المرايا والأضواء والظلال والتي قال عنها بايي إنكلان إنه استعمل مرايا «خاصة» ميزتها أن تعكس ليس النسخة الدقيقة للواقع وإنما الصورة الملتوية والمشوهة لها. صورة تبدي مرارة الواقع الداخلي لكل كائن وتفترق عن الصورة التي تعكس ظاهر وجوده المزيف.

  إسبيربينتو الشخصيات:

  بايي إنكلان يحقر شخصياته ويحول دون أن يصبحوا أبطالا. هذا التحقير والإذلال يتجلى بواسطة تقنيات مختلفة:

  • التحويل إلى مادة حيوانية: يمنح بايي إنكلان شخصياته خصائص وسمات الحيوانات. فالرجال يتحولون إلى «كلاب» و «جمال» و «خنازير». أو يصف الأشخاص بنعوت يتميزون بها ويتحاشى بها السمات التي تجعلهم أشخاصا «يتدخل السيد لاتينو بتلك الصبغة التي تسم الكلب الجبان الذي يطلق نباحه بين رجلي صاحبه» (المشهد الثاني) «ثاراتوسترا أحدب وشبيه بحيوان. الوجه مثل شحم خنزير فاسد والكوفية في اخضرار ثعبان. يثير بهيأته السخيفة تنافرا حادا مؤلما ومؤثرا جدا. منكمش في وبر المعز الممزق لمقعد صغير واضعا أخمصي قدميه الملفوفتين بالقماش في أسفل المجمرة. يحرس الدكان ويخرج فأر فمه من جحر بفضول» (المشهد الثاني). «أطل من الباب صعلوك طويل وحقير يبيع الصحف ضاحكا ومحركا الكتفين مثل كلب ينفض البراغيث» (المشهد الثالث).
  •  تحويل الأشخاص إلى دمى: حيث تظهر شخصيات النص كأنها دمى وكراكيز «يدخل ثاراتوسترا إلى الغرفة الخلفية ويخرج بشمعة موقدة. يهتز الشمعدان الودك في يد دمية العرائس» (المشهد الثالث). «دوريو دي غاديكس وكلارينيتو وبيريث مستندون إلى الحائط. إنهم ثلاث دميات حزينة مصطفة» (المشهد الثالث عشر).

ج- حضور الأقنعة التنكرية هدف بها إلى الكشف عن الحقيقة الجوهرية لمن يختفي وراءها. «أمام ذلك الحضور يحس الشاعر (روبين داريو) بمرارة الحياة. وبحركة أنانية لطفل غاضب يغمض عينيه ويعب رشفة من كأس مشروب الأبسنت. أخيرا ينشط قناع المعبود الذي يضعه على وجهه بابتسامة مفعمة بالرطوبة» (المشهد التاسع). «في الظلال الخفية للأغصان تتسكع شابات وشمطاوات مطليات مثل الأقنعة» (المشهد العاشر).

  وبالإذلال والتحقيرعمد بايي إنكلان أيضا إلى نزع هيبة السلطة وتجريدها من أسطورتها من خلال حركات الوزير ومظهره «يفتح معالي الوزير باب مكتبه ويطل دون سترة. أزرار فتحة السراويل مفكوكة. الصدرة مفتوحة والنظارتان معلقتان بخيط مثل عينين سخيفتين ترقصان فوق بطنه» (المشهد الثامن).

  وهذه الصورة التحقيرية للوزير هي نفسها التي كانت ممتدة في سلوك الحياة العامة حيث بدت ظواهر الصعلكة والإجرام والجهل والسرقة والاحتيال ممارسة عامة. فالوزير وكاتبه دييغيتو والسيد لاتينو وثاراتوسترا ولابيسابيين ومهمشون آخرون كلهم كانوا يزاولون السرقة أو يحمونها أو يتسترون عليها. فثاراتوسترا والسيد لاتينو خدعا ماكس في المشهد الثاني. والوزير قبل اقتراح كاتبه لمنح المال لماكس من رصيد الشرطة في المشهد الثامن. والسيد لاتينو يتخلى عن ماكس بمدة قصيرة قبل أن يموت ويسرق له حافظة نقوده في المشهد الثاني عشر.

  إسبيربينتو الفضاء

  يقدم النص إسبانيا العصر في درجة قصوى من الانحطاط لذلك جعل الشخصيات تتحرك في فضاءات تكاد تكون دائما ضعيفة الإضاءة ووسخة.

  فقد وُصفت مكتبة ثاراتوسترا على سبيل المثال وكأنها مغارة حيث «أكوام من الكتب تشبه أنقاضا تغطي الجدران». ولكون الضوء في العمل المسرحي كان عنصرا رمزيا فقد أصبحت فيه الفضاءات السيئة الإنارة أو التي ليس بها ضوء شاملة لكل الأماكن والشخصيات. «خمارة بيكا لاغارطوس ينبعث الضوء من غاز الأسيتيلين، طاولة عرض المشروبات من الزنك أمام الزبائن، دهليز مظلم به طاولات ومقاعد» (المشهد الثالث). «ماكسيمو إسترييا والسيد لاتينو دي هيسباليس ظلان يتنعمان بكؤوس النبيذ الأحمر في ظل إحدى الزوايا» (المشهد الثالث). «الكليب أمام النعش بين انعكاس ضوء الشموع المضطرب يحرك ما تبقى من ذيل» (المشهد الثالث عشر). هذه الأضواء والظلال تشير إلى أجواء العنف القاتم. «ثاراتوسترا يمشي بمشية وئيدة. اليد مرتدية قفازا أسود تمر بالضوء على رفوف الكتب. ينعكس الضوء على نصف الوجه والنصف الآخر في الظل» (المشهد الثاني).

  والفضاءات الرسمية هي أيضا قد وُصفت حجراتها بشكل يهيمن عليه مظهر سوقي ومبتذل. فدهليز وزارة الحكومة: «رفوف بها أوراق. مقاعد بجانب الحائط. طاولة عليها فراء متسخ. هواء كهف ورائحة تبغ زنخ باردة» (المشهد الخامس). ومكتب تحرير جريدة إلبويبلو: «قاعة بأرضية مبلطة. في الوسط منضدة طويلة وسوداء محاطة بكراسي شاغرة. محافظ متآكلة وأكوام من الأوراق يبرز بياضها في الدائرة الضوئية الخضراء لمصباح محاط بقماش» (المشهد السابع). والكتابة الخاصة لمعالي الوزير: «رائحة السيكار الهاباني. لوحات رديئة. ترف قروي ظاهر. نصف الغرفة يذكرك بمكتب والنصف الآخر بقاعة ناد للقمار» (المشهد الثامن).

  وهكذا رسم بايي إنكلان بالإسبيربينتو صورة مشوهة للحياة الإسبانية التي كان يسخر منها وبشخصياته التي كانت تجتر طرقا ومسالك فاقدة للمعنى ومثيرة للضحك. ولا تقتصر أهمية «أضواء البوهيمية»، فقط على طريقة صاحبها لرؤية الواقع الإسباني وكتابتها على نسق خاص نال اهتماما واسعا من لدن الدارسين والنقاد بل قد ينضاف إليها ثراء لغتها وتنوعها التي كانت تتميز بالتباين حسب المواقف وتتناوب فيها اللغة الأدبية بالتعابير المدريدية العريقة والخرق اللغوي العامي، وباستعمالاتها التعبيرية التي تلائم الشخصيات حسب ظروفهم ووضعهم الاجتماعي، وبحواراتها الحية المنساقة مع جمالية الإسبيربينتو، وباستشهاداتها ومرجعياتها الأسطورية والأدبية وإيحاءات ألفاظها ومجازاتها وإشاراتها الأدبية والتاريخية. ويجب التنويه في الأخير بعمل الأستاذ عمر بوحاشي في اختياره لهذا العمل الذي يعد صاحبه من أبرز كتاب الأدب الإسباني وأحد المجددين الكبار في تاريخه والذي قدم فيه الأستاذ بوحاشي لقراء العربية إحدى روائع الأدب الإسباني الأكثر خصوصية وتميزا. كما يجب التنويه أيضا بدقة ترجمته ومحافظته على النص وحسن استيعابه لخصوصيته وسماته ومعجمه الخاص وإشاراته التاريخية والأدبية الموغلة في الخفاء. 

  • Related Posts

    La expansión imperialista por Asia

    por Eduardo Montagut En el siglo XIX, las principales potencias colonialistas europeas occidentales, especialmente, Gran Bretaña y Francia, pero también Estados Unidos y Japón, intervinieron activamente en el continente asiático. Gran Bretaña se concentró en la India, la denominada “joya…

    Amor, deseo y goce en Fortunata y Jacinta

    _________________________________________ Félix Recio Psicoanalista y Profesor El presente capitulo es una aproximación, desde el psicoanálisis, a la novela “Fortunata y Jacinta”, a partir de los conceptos de amor, deseo y goce, teorizados tanto por Freud como por Lacan, trabajaremos la…

    Deja una respuesta

    Tu dirección de correo electrónico no será publicada. Los campos obligatorios están marcados con *

    ARTÍCULOS

    Coloquio Internacional: reconceptualizar el bienestar: exploraciones literarias y artísticas. Instituto Universitario de Estudios Africanos, Euro-Mediterráneos e Iberoamericanos

    Coloquio Internacional: reconceptualizar el bienestar: exploraciones literarias y artísticas. Instituto Universitario de Estudios Africanos, Euro-Mediterráneos e Iberoamericanos

    Del colonialismo al imperialismo

    Del colonialismo al imperialismo

    Mujeres por el desarme en 1930

    Mujeres por el desarme en 1930

    Diwan Mayrit: puente cultural entre España y el Magreb, traducción de Mostapha ZIAN

    Diwan Mayrit: puente cultural entre España y el Magreb, traducción de Mostapha ZIAN

    El periódico “La Solidaridad”

    El periódico “La Solidaridad”

    La IA en la educación: oportunidades y desafíos en un mundo en cambio

    La IA en la educación: oportunidades y desafíos en un mundo en cambio

    “El Clamor Público”: un periódico progresista

    “El Clamor Público”: un periódico progresista

    Galdós en el mitin del Jai-Alai del primero de mayo de 1910

    Galdós en el mitin del Jai-Alai del primero de mayo de 1910

    Cuando el integrismo cargó contra el monumento madrileño de Juan Valera

    Cuando el integrismo cargó contra el monumento madrileño de Juan Valera

    Entrevista a Rosa Amor, directora de Isidora revistas

    Entrevista a Rosa Amor, directora de Isidora revistas

    Las mujeres en su sitio

    Las mujeres en su sitio

    Hommage à Mohamed Sektawi : gardien de secrets et poète de la résistance

    Hommage à Mohamed Sektawi : gardien de secrets et poète de la résistance